أ.ذكريات سند
يذهب كل يوم إلى دوامه في الوقت المحدد، هو ملتزم بأوقات الدوام الرسمي، مواظب على أداء المهام الموكلة إليه، يؤدي كل الأعمال في وقتها المطلوب ونادرا ما يتأخر في تسليمها، ورغم امتداح الإدارة إليه ونعته بالموظف المثالي، كان يستشعر بين الفينة والأخرى شيئا ناقصا بداخله فيبحث عن المصادر الخارجية المادية لعله يغطي شعور النقص لديه.
إنه المعلم هاني المخلص في أدائه، المتفاني في الشرح لطلبته، ذات يوم انفجر أحد طلابه بالبكاء أمام مرأى عينيه فما كان منه إلا أن اقترب منه بعاطفة باردة وقال له: أمسك المنديل وامسح دموعك، ولا تبكِ وتضيّع وقت الحصة وكفى!
فاستطرد مجددا في الشرح وكأن استجابته للطالب كانت أكثر من كافيةٍ في نظره وانتهى الأمر. فالمهم أن يكون هو المسطرةُ التي لا تحيد عن سنتيمتر واحد عن القياس المطلوب في تخطيطه لسيرورة سير الحصة، فبكاء الطالب ليس ضمن أجندته المخطط لها.
مرت الأيام وبينما كان يصحح كراسات الطلبة في غرفة المعلمين، استوقف سمعه اسم "عبدالله" فهو طالبه الذي بكى ذلك اليوم، استمر في عمله ولكن فضول سمعه والرغبة في معرفة قصة عبدالله كانت هذه المرة أكبر من المسطرة التي تحركه، فتابع منتبها لبقية حديث المعلمين حيث قال أحدهم: هل تعرفون أن عبدالله قد توفيت أمه قبل أيام بعد معاناة طويلة مع مرض السرطان ؟ وقد تأذى كثيرا من فقدها بهذه السرعة فقد كان ملازما لها في المستشفى بصورة دائمة حسب ما ذكره أبوه.
في تلك اللحظة الجوهرية التي سمع بها المعلم هاني هذه الكلمات، انهمرت دموعه دون سابق إنذار، وفاضت منه مشاعر جياشة كزلزال هائج يجرف كل البرود العاطفي، بل كسيل يغسل جفاف قلبه وفتور مشاعره تجاه طلبته ومؤخرا تجاه عبدالله، الذي لم يكلف نفسه بالسؤال حتى عن سبب بكائه!!
استيقظت روحه للتو، أدرك هاني المعلم الشيء المفقود الذي كان يبحث عنه طويلا، إنه التشاعر الإنساني مع طلبته فهم ليسوا مساطر وليسوا كراسي مصفوفة في الصف الدراسي، إنهم أرواح صغيرة شفافة، تحزن تبكي، تفرح، تغضب، إنهم كائنات حية.
شعر هاني المعلم بندم كبير، ولكنها كانت اللحظة التي تشبه الشعرة التي قصمت ظهر البعير ولكن بصورتها الإيجابية، فللتو ولدت الاستدارة الصحيحة له وغيرت بؤرة بوصلته واهتمامه، فالاجتهاد في انجاز العمل والاخلاص والاتقان لا يختلف عليه اثنان، لكن عنصرها الجوهري المحوري هو الطالب، والطالب هو جسد وعقل، روح ومشاعر، لا أداة من الأدوات المدرسية أو غيرها من الجمادات.
فيجب أن يكون المعلم الجامع الذي يقدم خلطة من العقل الذي يترجم بالمعرفة والروح والمشاعر واحساس الطالب، وكذلك جسده كوجود وتفاعل، كلها تعني الإنسان الطالب، فالمعلم الذي لا يكترث بمجموع هذه الجوانب كلها مجتمعة عليه أن يراجع حوسبة دوره! ويسأل نفسه بعض الأسئلة :
- هل أنا فقط معلم لألقن الطلبة معلومات ومعارف؟!
- هل أنا فقط معلم لشرح النظريات والقوانين؟!
- هل أنا ،،،، هل أنا ،،،،،،؟؟؟؟
أم ماذا ؟ ومن أنا ؟ وما هو دوري الحقيقي والفعلي؟
إنَّ الإنسان المعلم هو الذي يجمع المعرفة والاهتمام الإنساني وتقديم الدعم والمساندة لطلبته، يستشعر همومهم، أفراحهم، غضبهم، يعرف مواهبهم، اهتماماتهم عن قرب، فهو لا يسمح لنفسه أن تكون علاقته بطلبته جوفاء من دون روح رطبة، هو قريب منهم يسعى دائما في تطوريهم أخلاقيا وقيميا ويكون لهم كالمزرعة الغناء المليئة بكل شيء جميل ومفيد يحتاجونه .
إنَّ دور المعلم لا يقتصر على الشرح فقط، بل هذا جزء من أدواره، ولعل الدور الأكبر هو احتواء الطلبة والاهتمام الإنساني بهم وتطويرهم وبناء شخصيتهم الحياتية.