د. سرور قاروني
عندما عرفت بأنّها تحمل طفلاً في أحشائها، وعدت نفسها بأن تُعطي هذا الطفل كلما كانت تحلم به من رعاية واهتمام، فهي تعرف مدى حبّ والديها لها، ولكنّها في ذات الوقت كانت تتألّم لعدم قدرتهما على ادراك ما كانت تمرّ به من تحدّيات ومشكلات، والصعوبة التي كانت تكابدها في محاولاتها لإيصال وجهة نظرها لهما في موضوع ما، فكثيراً ما كان يبدو لها بأنّهما يعيشان في عالم مختلف عن ذاك الذي تعيشه هي، فكأنّ الكلمات التي تقولها تعني شيئاً مختلفاً بالنسبة لهما عن ذلك الذي تقصده.
وُلد طفلها أحمد وهي تحاول أن تفعل ما تستطيع لتبني فيه شخصيّة قويّة وتعزّز ارتباطها به، فكانا قريبين من بعضهما حتى سنوات المدرسة الأولى حين بدأت تلك العلاقة بالضعف شيئاً فشيئاً حتى وصلت إلى أضعف حالاتها في مرحلة المراهقة، وبدأت تلاحظ بأنّها تعيش مع ابنها أحمد ذات الحال الذي عاشه والديها معها، فهو يبتعد عنها شيئاً فشيئاً، ويقول لها صريحاً وتلميحاً ذات الكلام الذي كان يدور في خلدها عن معاملة والديها لها.
من أهم النعم التي أنعم الله بها على الإنسان هي نعمة الإحساس، والتي تقوم بدور مساند له خاصّة في الأوقات التي يتحيّر فيها ويصعب عليه التعرّف على ماهيّة الأمور، أو يعطيه المنطق تطميناً بأن ما يقوم به جيّداً ولكن شعوراً بداخله يشير إلى وجود خطب ما، وهذا الشعور الداخلي هو عامل مهم جداً خاصّة لدى الأطفال والمراهقين الذين يفتقرون إلى الخبرة التي تساعدهم في أن يدركوا الجوانب المختلفة في المواقف التي يتعرضون لها، هذا الإحساس يشير بأنّ هناك شيئاً يجب أن يتمّ أخذه بعين الإعتبار، والتفكير في الموضوع مرّة اخرى وبشكل أعمق، وربّما طلب المساعدة من شخص ذي خبرة.
ويُعتبر هذا الإحساس هو العامل الأوّل والأساس لحماية الأطفال والمراهقين من أنواع الإعتداء والابتزاز والاستغلال، وهو غالباً ما يكون قويّاً لدى الأطفال، مع أنّه قد يضعف مع تقدّمهم في العمر، ولكنّ الكثير من الآباء يقتلون هذا الإحساس في أطفالهم لاعتبارات يظنّون من خلالها أنّهم يقومون بما يُساعدهم ويبني شخصيّاتهم.
فهناك مواقف لا حصر لها قد يتعرّض لها الطفل بشكل يومي ، تساهم في وأد هذا الإحساس، فعلى سبيل المثال، قد يُخبر الطفل والديه عن خوفه من الظلام، ويكون الجواب: لا يوجد ما يُخيف في الظلام، أو يأتي شاكياً من ألم في رجله بعد سقوطه على الأرض، ويكون الجواب: هذا لا يؤلم، اذهب واكمل اللعب، وقد يشعر الطفل بالضيق والرغبة في البكاء على موضوع قد يراه الآباء تافهاً، فيكون الجواب: لا يستحق الموضوع هذا الضيق، وقد يقول لوالديه بأنّه لا يودّ السلام على شخص معيّن من الأصدقاء أو الأقارب بالتقبيل والعناق ويكتفي بالسلام باليد، وحين يُسأل عن السبب يوضّح لهم بأنّه لا يشعر بالإرتياح، ويكون الجواب سيل من الكلمات التي توصفه بقلّة الأدب وانعدام الذوق وعدم تقدير الآخرين.
تلك هي نماذج من مواقف تحمل في طيّاتها مفهوماً أساسيّاً يتعلّمه الطفل من والديه، وهو أنّ إحساسه وما يشعر به ليس بالضرورة صحيحاً، وبتكرار ذلك يترسّخ هذا المفهوم، ولهذا تأثير مباشر على تصرّفات الطفل والقرارات التي يأخذها في المواقف الصعبة والحرجة، فقد لا يتّخذ تصرّفاً سليماً في الوقت الذي يشعر بأنّ هناك شيئاً ما ليس على ما يرام، وأنّ عليه اتخاذ الحيطة والحذر، أو عليه التحدّث مع أحد لمساعدته والابتعاد عن الوضع أو المكان الذي هو فيه، وحين يكون هذا الطفل مع شخص يلمسه أو يحدّثه بطريقة تعطيه إحساساً مزعجاً، فإنّ هناك إحتمالاً أكبر بأن يتجاهل احساسه ويتصرّف وكأن الأمور طبيعيّة، وقد يُباغَت بتصرّف غير متوقّع، ويصبح عرضة للاعتداء والأذى، في الوقت الذي كان بإمكانه التصرّف بشكل مختلف لو أنّه أعطى قيمة لإحساسه.
وللوالدين دورٌ أساسيٌ في مساعدة الأبناء على التعرّف على إحساسهم، ومساعدتهم على فهمه والإستماع إليه، وعدم رفضه، وأقلّ ما يستطيع الآباء القيام به هو أن لا ينفوا الإحساس، ويقوموا بمعالجة الخطأ الذي يرونه بشكل مختلف، فإن قال الطفل أنّه يخاف من الظلام،يتناقشون معه في أسباب خوفه ومساعدته على التغلب على الخوف بدل من انكار الإحساس بالخوف، وهذا يُعطي سلاحاً قويّاً للأبناء يستطيعون من خلاله حماية أنفسهم من الإعتداء من جهة، ويُساهم في بناء علاقة قويّة ومتينة بينهم وبين آبائهم لكي يستطيعوا اللجوء إليهم واستشارتهم في أمور حياتهم المختلفة من جهة أخرى.