د. سرور قاروني
يحبّ جميع الآباء أبناءهم بشدّة إلا ما ندر منهم، وبالرغم من ذلك، حين يُسأل الأطفال الكبار وخاصّة المراهقين منهم إذا ما كانوا يعتقدون بأنّ آباءهم يحبّونهم، قد يُجيبون بأجوبة صادمة وغير متوقّعة، فنسبة كبيرة منهم تبدو مشكّكة وليست متأكدّة، ونسبة الذين يقولون أنّهم متأكدون من محبّة آبائهم قد تتساوى مع أولئك الذين يؤمنون بأنّ آباءهم لا يحبّونهم، بل ويكرهونهم.
ثمّة حلقة مفقودة بين الحبّ العميق والأصيل الذي يحمله الآباء لأبنائهم وبين طريقة وصول هذه العاطفة القويّة إلى الأبناء، ولذلك أسباب متعدّدة وعوامل مختلفة، ولعلّ من أهمها الطريقة التي يستخدم فيها الآباء حاجة أبنائهم للمحبّة، فهناك من الآباء، وبحسن نيّة ورجاء خير، يتعاملون مع إظهار محبّتهم لأبنائهم كآلة ضغط يمارسون من خلالها التشجيع للوصول لشيء معيّن أو النهي عن عمل ما، كأن يُقال للطفل لتشجيعه على التفوّق الدراسي: سوف أحبّك إذا كانت نتائج امتحاناتك عالية، أو سأحبّك أكثر إذا كانت نتائج امتحاناتك عالية، ولحثّه على النظافة والنظام: قم بتنظيف غرفتك لكي أحبّك، ولتهذيب كلماته: لن أحبّك إذا تلفّظت بهذه الكلمات مرّة أخرى، ولمساعدته في بناء شخصيّة صلبة قوية حين يبدو متأثّراً لأسباب يعتقد الآباء أنّها واهية: لا أحبّ الذين يبكون لأتفه الأسباب.
هذه الممارسات والكلمات قد تُعطي للأطفال والمراهقين معان مختلفة عن تلك التي يُحاول الآّباء إيصالها لهم، وهي تشوّه أحد أهم دعائم وأسس الشخصيّة السويّة البعيدة عن التناقضات، فالطفل يستطعم المحبّة ويحتاجها منذ أيّامه الأولى كما يستطعم الحليب ويحتاجه، والله تعالى أعطى الوالدين كمّاً هائلاً من المحبّة لأبنائهم تصل لدرجة التضحية براحتهم وأوقاتهم وما لديهم في سبيل إسعادهم، وهذه المحبّة لها دور كبير وهام في بناء شخصيّة الطفل والمراهق ونموّه العاطفي إذا ما وصلت إليه صافية كما هي، فهو بحاجة لأن يعرف أنّ أبويه يًحبّانه، حتى لو كانوا قد فارقوا الحياة، ولا يعوّض ذلك محبّة كلّ من حوله له، فمحبّة أبويه تعني شيئاً مختلفاً وتُشبع وتقوّي جوانب حسّاسة في تكوينه النفسي والعاطفي والعقلي.
الأبناء بحاجة لأن يعرفوا بأنّ آباءهم يحبّونهم لأجلهم هم وليس لأجل ما يفعلون وما هم قادرون على فعله، وهذه هي حقيقة مشاعر أغلب الآباء، فمهما كان الأبناء عاقّين وسلوكهم سيئاً، إلّا أنهم يريدون خيرهم وصلاحهم وسلامتهم في كلّ آن، وحين يرونهم يتأذّون أو يتألّمون لأيّ سبب، فإنّهم يستاؤون ويتأذون بقدر قد يفوق ذلك الذي يشعر به أبناؤهم.
فمن المهم أن يفرّق الآباء بين حبّهم لإبنائهم وتقييمهم للعمل الذي يقومون به، وأن يساعدوا الطفل أو المراهق على أن يُدرك بأنّ أبويه يحبّانه مهما كان سلوكه، ولكنّهم سيكونون راضين عنه حين تكون أعماله وتصرّفاته تتناسب مع القيم والقوانين التي تتبنّاها العائلة، ولن يكونوا راضين عنه، أو قد يكونوا غاضبين، إذا ما كانت أعماله وتصرّفاته لا تتلائم مع تلك القيم والقوانين.
فالتفريق بين حبّ الآباء ورضاهم يُعطي الأبناء الإطمئنان الذي يحتاجونه للشعور بالسلام والاستقرار النفسي، والاستغناء عن استجداء المحبّة من آخرين ليملئوا الفجوة التي قد تنتج نتيجة الشعور بالفقر العاطفي، ويُساهم ذلك بصورة جادّة وفعالّة في حمايتهم من الاستغلال والاعتداء بأنواعه، إذ أن نسبة كبيرة من الذين يتم استدراجهم والاعتداء عليهم أو استغلالهم، هم اولئك الذين أخفق آباؤهم في إيصال محبّتهم إليهم، فاهتزّت صورتهم أمام أنفسهم، ومعها ثقتهم بها، وهي من أهم العوامل التي تعرّض أي طفل أو مراهق للاعتداء.
فالمحبّة موجودة لدى الآباء بأرقى الصور الممكنة وأروعها، وما يحتاجونه فقط هو أن يوصلوها لأبنائهم بالطريقة التي يفهمونها هم، وليس بالطريقة التي يعتقدون هم كآباء بأنّ عليهم فهمها، وعندها سيشعر الآباء بنعمة الأبوّة، وسينعكس
هذا على شخصيّات الأبناء وشعورهم بالأمان وعلى توازنهم النفسي والعاطفي.